- تمثل خلق العشرة بالمعروف عند النبي صلى الله عليه وسلم .
لم تعرف المرأة عشرة زوجية بالمعروف ، كما تعنيه هذه العشرة من كمال لأحد من البشر كما عرفته لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، المبين للقرآن بحاله وقاله وأفعاله .
حيث " كان من أخلاقه صلى الله عليه وسلم معهن أنه جميل العشرة ، دائم البشر ، يداعب أهله ويتلطف بهم ، ويوسعهم نفقته ، ويضاحك نساءه ، حتى أنه كان يسابق عائشة أم المؤمنين - رضي الله عنها - في البرية في بعض سفراته يتودد إليها بذلك ، قالت : " سابقني رسول الله فسبقته وذلك قبل أن أحمل اللحم ، ثم سابقته بعد ما حملت اللحم فسبقني فقال : " هذه بتلك " وكان يجمع نساءه كل ليلة في بيت التي يبيت عندها رسول الله صلى الله عليه وسلم فيأكل معهن العشاء في بعض الأحيان ثم تنصرف كل واحدة إلى منزلها ، وكان ينام مع المرأة من نسائه في شعار واحد يضع عن كتفيه الرداء وينام بالإزار ، وكان إذا صلى العشاء يدخل منزله يسمر مع أهله قليلاً قبل أن ينام يؤنسهم بذلك صلى الله عليه وسلم " قاله الحافظ ابن كثير رحمه الله تعالى "
ولقد جعل النبي صلى الله عليه وسلم معيار خيرية الرجال في حسن عشرة الزوجات فقال : " خيركم خيركم لأهله ، وأنا خيركم لأهلي " الترمذى .
وذلك لأن التَّصنُّع والتظاهر بمكارم الأخلاق يضعف حين يشعر الإنسان بأن له سلطة ونفوذاً ، ثم يشتد ضعفاً حينما تطول معاشرته لمن له عليه السلطة ، فإذا ظل الإنسان محافظًا على كماله الخُلقي في مجتمع له عليه سلطة ، وله معه معاشرة دائمة ومعاملة مادية وأدبية ، فذلك من خيار الناس أخلاقًا .
فإن كان النبي صلى الله عليه سلم خير الناس لأهله ، فإن معاشرته لهم لا بد أن تكون مثالية حقًا ، في كل ما تعنيه الخيرية من كمال خُلُقي في السًّلوك ، والتَّعامل الأدبي ، والتعاملي ؛ من محبة وملاعبة ، وعدل ورحمة ، ووفاء ، وغير ذلك مما تقتضيه الحياة الزوجية في جميع أحوالها وأيامها ، كما أوضحت ذلك كتب السنة والشمائل والسيرة ، وذلك هو ما دلت عليه السنة المشرفة بأحاديثها الكثيرة من سلوكه صلى الله عليه وسلم معهن ومعاملته لهن .
( أ ) فعن محبته لهن يحدِّث أنس بن مالك - رضي الله عنه - فيقول :
1- " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم حُبِّبَ إليَّ من الدنيا : النساء والطيب وجعل قرة عيني فـــــي الصلاة " أحمد وغيره .
2- وسأله عمرو بن العاص - رضي الله عنه - قائلاً : " يا رسول الله من أحـــــــبَّ الناس إليك ؟ قال : " عائشة " قال : من الرجال ؟ قال : " أبوها " الترمذي .
( ب ) وأما ملاعبته أهله فتحدثنا عنها عائشة - رضي الله عنها - فتقول :
1- كنت ألعب بالبنات عند النبي صلى الله عليه وسلم وكان لي صواحبُ يلعبن معي فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا دخل ينقمعن - أي يتغيَّبن - منه فيُسرِّبُهن إلي فيلعبن معي " البخاري في الأدب .
2- وقالت عائشة - رضي الله عنها - رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يسترني وأنا أنظر إلى الحبشة وهم يلعبون في المسجد ، فزجرهم عمر - رضي الله عنه - ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم " دعهم ، أمنًا بني أرفِدة " يعني من الأمن . البخارى .
وفي لفظ قالت : " لقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقوم علـــــــــى باب حِجرتي ، - والحبشة يلعبون بِحِرابهم ، في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم - يسترني بردائه ، لكي أنظر إلى لعبهم ، ثم يقوم من أجلي حتى أكونَ أنا الَّتي أنصرف ، فاقدروا قدر الجارية الحديثة السن ، الحريصة على اللهو " .
3- وقد مر حديث مسابقته صلى الله عليه وسلم لعائشة - رضي الله عنها - الدال على لعبه صلى الله عليه وسلم مع نسائه بنفسه الشريفة تلطُّفًا بهن ، وتأنيسًا لهن ، لكريم عشرته وعظيم رأفته ورحمته .
4- ومن حسن عشرته وكريم خُلقه صلى الله عليه وسلم ما أفادته السيدة عائشة - رضي الله عنها - بقولها : " كنتُ أشرب وأنا حائض ثم أناوله النبي صلى الله عليه وسلم فيضع فاه على موضع فيَّ فيشرب ، واتعرق العَرْقَ وأنا حائض ، ثم أناوله النبي صلى الله عليه وسلم فيضع فاه على موضع فِيَّ . مسلم .
وفي رواية : " كنت أتعرق العَرْق وأنا حائض فأعطيه رسول الله صلى الله عليه وسلم فيضع فمه في الموضع الذي وضعت فمي فيه ، وكنت أشرب من القدح فأناوله إياه فيضع فمه في الموضع الذي كنت أشرب . أبو داود .
( ج ) وأما حلمه صلى الله عليه وسلم عن إساءتهن وصبره على أذيتهن فهو في ذلك المثل البشري الأعلى ، بحيث لم يسمع بأحد كان أحلم عن نسائه كما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وذلك مع عظيم جنابه ، ورفيع قدره ، وسُموِّ منزلته عند الله تعالى وعند الناس ، ولقد مرَّ بك من الدلائل على ذلك في مبحثي الصبر والحلم ما فيه الكفاية للاستدلال على ما قلت عمومًا ، لكني أزيد هنا ما هو أمس في الدلالة على الموضوع فمن ذلك ما يلي :
1- عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - قال : " كنا معشر قريش نغلبُ النساء ، فلمَّا قدمنا على الأنصار ، إذا قوم تغلبهم نساؤهم ، فطفق نساؤنا يأخذن من أدب نساء الأنصار ، قال : فصخَبتُ على امرأتي فراجعتني ، فأنكرت أن تراجعني ، قالت : ولم تنكر أن أراجعك ؟ فوالله إن أزواج النبي صلى الله عليه وسلم ليراجعنه ، وإن إحداهن لتهجره اليوم إلـــى الليل ، قال : فأفزعني ذلك وقلت لها : قد خاب من فعل ذلك منهن ، قال : ثم جمعت عليَّ ثيابي فنزلت فدخلت على حفصة فقلت لها : أي حفصة ، أتغاضب إحداكُنَّ النبي صلى الله عليه وسلم اليوم حتى الليل ؟ قالت : نعم ، قال : فقلت : قد خبتِ وخسرت ، أفتأمنين أن يغضب الله لغضب رسوله صلى الله عليه وسلم فتهلكي ؟ ... " الحديث - البخاري .
فانظر كيف انزعج عمر - رضي الله عنه - من مراجعة بسيطة راجعته بها زوجته ، والنبي صلى الله عليه وسلم يقبل مراجعة نسائه ، بل ويتحمل غضبهن عليه ، حتى يَهجرنه من الكلام ، وهو النبي الكريم والإمام العظيم ، وما ذلك إلا لعظيم حلمه وبالغ صبره صلى الله عليه وسلم .
2- والأعجب من ذلك أنه صلى الله عليه وسلم كان مع ذلك الحال يلاطفهن في القول ، وكأنه لم يصدر منهن شيء ذو بال ، فعن عائشة - رضي الله عنها - قالت : قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إني لأعلم إذا كنتِ عنِّي راضية ، وإذا كنت علي غضبى " قالت : فقلت : من أين تعرف ذلك ؟ فقال : [ أما إذا كنتِ عنِّي راضية فإنك تقولين : لا ورب محمد ، وإذا كنت غضبى قلت : لا ورب إبراهيم " قالت : قلتُ أجل والله يا رســـــول الله ، ما أهجر إلا اسمك " البخاري .
3- وعن أنس - رضي الله عنه - قال : كان النبي صلى الله عليه وسلم عند بعض نسائه فأرسلت إحدى أمُّهات المؤمنين بصحفة فيها طعام ، فضربت التي النبي صلى الله عليه وسلم في بيتها يد الخادم ، فسقطت الصحفة ، فانفلقت فجمع النبي صلى الله عليه وسلم فِلق الصحفة ، ثم جعل يجمع فيها الطعام الذي كان في الصحفة ، ويقول : " غارت أمُّكم " ثم حبس الخادم حتى أتى بصحفة من عند التي هو في بيتها ، فدفع الصحفة الصحيحة إلى التي كسرت صحفتها ، وأمسك المكسورة في بيت التي كسرت . البخاري .
فانظر إلى مبلغ حلمه صلى الله عليه وسلم على أزواجه ، حيث تظلُّ إحداهن هاجرة له اليوم كله حتى تهجر اسمه الشريف ، وتستطيل إحداهن بيدها بين يديه على ما يخالف الواجب في حقه عليه الصلاة والسلام ، ومع ذلك فهو يُغضي عن ذلك ويحلم ويصبر ويصفح ، وهو القادر على أن يفارقهن ، فيبدله ربه خيرًا منهن مسلمات مؤمنات قانتات عابدات سائحات ثيبات وأبكاراً ، كما وعده ربه سبحانه إن هو طلَّقهن ، ولكنه كان رؤوفًا رحيمًا ، يعفو ويصفح ولا يزيده كثرة الجهل عليه إلا حلمًا .
( ح ) وأما الوفاء لهن فلعله قد علم مما تقدم عن خلق الوفاء ، وتطبيق النبي صلى الله عليه وسلم له في بابه ، لا سيما مع زوجه خديجة - رضي الله عنها - ، حتى بلغ من وفائه أن غارت منها عائشة - رضي الله عنها - وهي لم تدركها ولم تضارها حتى قالت : 1- " ما غِرت على امرأة لرسول الله صلى الله عليه وسلم كما غرت على خديجة لكثرة ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم إياها وثنائه عليها " البخاري .
2- ومن صور وفائه معهن أنه صلى الله عليه وسلم لما نزلت آية التخيير ( يأيها النبي قل لأزواجك إن كنتن تردن الحياة الدنيا وزينتها فتعالين أمتعكن وأسرحكن ســــــراحًا جميلاً ) ( الأحزاب : 21 ) بدأ بعائشة وقال لها : " إني ذاكر لك أمرًا فلا عليك أن لا تستعجلي حتى تستأمري أبويك ... " ( البخارى ) . خشية منه أن تختار زينة الحياة الدنيا لصغر سنها ، فتخسر الخير الكثير في الدنيا والآخرة ، لكنها كانت أحرص على خير نفسها من أبويها ، فقالت للنبي صلى الله عليه وسلم : " أفي هذا أستأمر أبويَّ ؟! فإني أريد الله ورسوله والدار الآخرة " .
ثم استقرأ الحُجَر ( البيوت ) يخبر نساءه ويقول لهن : " إن عائشة - رضي الله عنها - قالت : كذا وكذا فقلن : ونحن نقول مثل ما قالت عائشة - رضي الله عنهن - كلهن
وكانت عائشة - رضي الله عنها - قد قالت له بعد ما أختارت الله ورسوله : وأسألك أن لا تذكر لامرأة من نسائك ما اخترتُ ، فقال صلى الله عليه وسلم : " إن الله لم يبعثني مُعَنِّتاً ولا متعنتاً ، ولكن بعثني معلماً ميسراً ، لا تسألني امرأة منهن إلا أخبرتهـــا " متفق عليه .
فاخترن الله ورسوله والدار الآخرة ، وذلك يدل على أنهن - رضي الله عنهن - كنَّ قد تخلَّقن بأخلاق النبوة ، فأصبحن يخترن ما اختاره صلى الله عليه وسلم لنفسه من الزهادة في الدنيا ، والرغبة في الآخرة ، وذلك لبالغ تأثرهن بأخلاق رسول الله صلى الله عليه وسلم التي كانت محل العظمة والكمال .